رواية محظية الفرعون الفصل السادس
الفصل السادس: الشروط
نقدم لكم الفصل السادس من رواية محظية الفرعون (Pharaoh's Concubine ) الجزء الثاني من المدونة العربية الشاملة.
قراءة ممتعة :)
![]() |
هي تريد جعله سعيدا، تريد جعله سعيدا. هذا النوع من المزاج قوي جدا لدرجة جعلها هي ايضا قوية، حتى لو تحولت لغبار يتطاير في الشمس بسبب الاسف فإنها لن تتردد.
بالنسبة لايفي، كل لقاء مع رمسيس ثمين جدا، فهي ترى عواطف الحياة تتدفق منه، رؤيته يضحك، يغضب، غير مبال...، بهذا فقط تكون سعيدة، ستشعر أن ما مر خلال الثلاث الاف سنة الماضية وما مر خلال الحياة والموت أمر صحيح...
حتى في هذا التاريخ، هو لم يتذكرها، انما يكرهها. لكنها تريد رؤيته وأن توضح له مشاعرها حوله قدر الامكان في كل لقاء قصير بينهما، من خلال اتصال اعينهما، من خلال اي موقف بينهما او اقل محادثه قاسية بينهما.
تريد تعويضه عن كل شيء جعل ملامحه حزينة ومتألمة في تاريخ اخر.
اخرجت تنورة بيضاء كتانية من الصندوق ورفعتها فوق ركبها، ثم ثبتتها بدبوس بسيط، رفعت شعرها الفضي بأعلى ما تستطيع رفعه، ووضعت الشعر المصنوع من الذهب مشكل بشكل كعكة على راسها واخيرا سحبت طبقة من الشعر الذهبي الى جبهتها لتغطي الشعر الفضي.
نظرت في المرآة، واعادت النظر بتفحص الى المرآة ثانية. هذا الجسد بالفعل يشبهني...
على الرغم من عدم وجود شعر أشقر بلون الشمس، على الرغم من عدم وجود عيون زرقاء كالنيل، لكن البشرة البيضاء، الوجه الدقيق، الجفون العميقة، شفاهها المنحنية، كل شيء بطريقة ما يشبه نفسها الحقيقية.
تفاجأت.
ماذا يفعل هذا الجسد العجيب معها؟ على الرغم من ان الاخرين لن يجدوا تشابه بين الشخصيتين معا من نظرة سريعة، لكن كل هذا لن يخدع عينيه، لكن لم هذه الاميرة من ثلاثة الاف سنة مضت تشبهها؟
" صاحبة السعادة، هل تستطيعين المغادرة؟" جاءها صوت الشاب من الخلف ودخل الغرفة. في لحظة دخوله، وقعت العينان البندقيتان على جسد ايفي الابيض، توقفت عبارات التحية، وتحولت الى تحيات صامتة.
بعد عدة ثوان، كان الهدوء ما زال يعم المكان، استدارت ايفي ونظرت الى وينتر، وقتها كان في حالة متجمدة، والشعر البني الخفيف اخفى كل تعبيرات وجهه، وسال باحترام " صاحبة السعادة، هل انت مستعدة للمغادرة؟"
" نعم" اشارت ايفي برقة وخطت للخارج.
وقف الحارس الشاب باستقامة، العيون الجوزيتان سقطت على ظهرها الرفيع، وعلى وجهها الجميل مع بعض الافكار، حتى استدارت ايفي ونادت باسمه عندها تذكر ما يجب عليه فعله، وأسرع من وتيرته. ثم بدا بإظهار ابتسامته البريئة امام الاميرة صاحبة الشعر الفضي، وقال باحترام" اسف صاحبة السعادة، انا هنا، ارجوك يجب ان تكوني في غرفة القراءة الان"
اخر مرة قدمت فيها ايفي الى طيبة كانت بعد ثلاثة الاف سنة. اضواء الشوارع الصغيرة انعكست على النيل المظلم، كأحجار كريمة تشع في بساط اسود مخملي. وقفت على الشاطئ، تميل على السياج وتنظر الى مدينة الاقصر الصغيرة في مصر الحديثة. كان الراديو يصدح بالقران بجوار رجل مسلم. اسرعت الفتاة بالمشي على الشارع المنحدر، وغطى الجو الاسلامي على الطابع الفرعوني في مصر القديمة.
لازالت تتذكر حزنها. خلال الرياح المسائية الممتعة، تستطيع رؤية معبد الاقصر الذي توسع على مدار الاف السنوات، عند مرورها بابو الهول، تستطيع رؤية تمثال رمسيس الثاني يقف بهدوء في مدخل المعبد. مع انه كان غاضبا قليلا، من خلال تمثاله وملابسه، الا انه ما زال يمثل الشخص الذي احبته دائما، حتى بعد مليون ليله ويوم لا يمكن نسيانه.
وقفت بجوار تمثال رمسيس الثاني، واستدعت ذكرياتها عن مدينة طيبة.
العاصمة العظيمة ذات المئة باب، في كل ليلة، تكون مشعة بالأضواء، خاصة في القصر. يستطيع سكان طيبة احيانا سماع بعض الاصوات المبتهجة وصوت موسيقى غامض خليط من اصوات القيثارة والدف يأتي من القصر، يستطيع جنود الحراسة الذي يحرسون القصر ان يشاهدوا الراقصين الذين يرتدون ملابس جميلة يقادون الى قاعة المأدبة.
مكان قراءة الفرعون مخفية في زاوية من فناء القصر مملوءة بالأشجار الخصبة. مهما كانت الفوضى في القاعة، فان غرفته دائما هادئة. من تلك الغرفة، تستطيع سماع صوت النيل الهادئ ورؤية الضفة الغربية من طيبة.
هو يمضي الكثير من الوقت في تلك الغرفة عندما يكون هناك امور يجب ان يتعامل معها او بعض الامور ليفكر فيها... اعتادت ان تكون هناك لفترة قليلة. لكن الوقت كان قصيرا جدا، قصير لدرجة انها لم تستطع ان تتذكر بوضوح كيف كانت قراءته وكيف كان مظهره وقتها.
"هااي" تنهدت ايفي تنهيدة كبيرة، مداخلة اصابعها العشرة ببعضها ودافعة اياها في الاتجاه المعاكس. جاءتها الافكار عن الغرفة منذ ثلاثة الاف سنة ولم تملك الوقت لترتيب افكارها، قصر طيبة لم يتغير اطلاقا، لا تستطيع كبح ذكرياتها التي تدفقت بشكل فوضوي عن التجارب التي عاشتها مسبقا.
" صاحبة السعادة، اذهبي هنا" قال وينتر بلطف، واشارت يده الى جانب الممر المضاء.
نظرت ايفي حولها واستدرت لتنظر الى وينتر، عندها شعرت فجأة بان الوجه الواضح والجميل تحول ليصبح غريبا جدا لدرجة انها لم تجد له مكانا في ذاكرتها.
لم تتصرف باي شيء، تردد الشاب وتقدم باتجاهها، امسك يدها البيضاء والباردة بلطف في يده المغطاة بأداة ذهبية، قال بصوت خافت ورسمي " صاحبة السعادة، الطريق مظلم، وينتر سيأخذك الى هناك" وسحب يدها برفق.
القت ايفي نظرة على وينتر وببطء تبعته، ابتسم وينتر في خجل ورفع ظهره ثم ترك يد ايفي ببطء وتقدم للأمام متحركا بسرعة مناسبة لايفي لكي تتبعه على طول الممر المظلم في الفناء.
كان طريق صغير مرصوف بالحجارة، مضاء قليلا بأضواء على جانبيه. حراس بأسلحة في أيديهم كانوا يقفون بهدوء على جانبي الطريق لحراسته، كان من المخطط ان يقود وينتر ايفي لتجاوزهم، ودخلوا ببطيء الى الاستقبال.
في نهاية الطريق، كان هناك حقل فارغ، مقابل مباشرة لباب خشبي سميك بني اللون. فوق الباب نقشت صورة دقيقة للفرعون. رأى حراس الباب ايفي ووينتر، ركعوا وقالو باحترام" سيد وينتر، صاحبة السعادة ايفي".
وينتر هو الشخص الدائم التواجد حول رمسيس، مع انه لا يملك دما ملكيا، الا انه يتمتع بمكانة عالية. ايفي هي اميرة حقيقية، ووينتر خادم، مع ذلك قدم الحراس اسمه على اسمها دون قصد منهم. في هذه الحقبة الملكية المتفوقة، مكانة الشخص تعتمد بشكل كامل على تفكير الفرعون في الأشخاص. على الرغم من اعتراف الفرعون غير المباشر بايفي، الا ان مكانتها في قلبه تقع في نهاية ترتيب العائلة الملكية، حتى انها اقل من بعض الكهنة، مع انها تملك دما من سيتي الأول.
أوقف الحراس وينتر وايفي، قالت ايفي" اريد رؤية الفرعون، أخبره بذلك".
عانى الحارس من وقت صعب، " لكن ... صاحبة السعادة نيفرتاي في الداخل، ارجو من حضرتك العودة لاحقا"
نيفرتاي، اخترقت هذه الكلمات طبلة اذنها مباشرة وضربت قلبها، مسببة الما فيه.
مع انها فقط غرفة قراءة، الا ان نيفرتاي ورمسيس معا فيها، لذلك فانه من الصعب عليها تخمين ما يفعلانه هناك معا. لماذا هما معا؟ ماذا يقول لها؟ تساءلت في نفسها ولم تستطع ان تسال، لا يجب عليها ان تسال، وبدأت تدريجيا بالسقوط في حزن عميق، ضمت صدرها وتنفسها أصبح ضعيفا.
نظر وينتر الى وجه ايفي الشاحب وقال بلطف " صاحبة السعادة، من الأفضل ان نعود الان ونأتي لمقابلته غدا".
ثنت ايفي شفتها السفلى وضربت جبهتها، يجب عليها الانتظار قليلا، هناك بعض الكلمات تريد قولها اليوم.
شعرت ايفي انه إذا لم تستطع رؤيته اليوم، وعادت هكذا دون مقابلته فإنها ستموت. ستموت بسبب الم قلبها الذي سببه لها حزنها العميق.
وبينما هي مترددة، فتح الباب الخشبي السميك ببطء، تسلل الضوء الذهبي من داخل الغرفة وسقط على ايفي.
" لماذا انت هنا؟"
لم تستطع ايفي رفع بصرها ورؤيتهم، تراجعت بضع خطوات للخلف وسقطت بين ذراعي وينتر الواقف خلفها.
رفعت نظرها ببطء وشاهدت المشهد المألوف امام ناظريها.
تبدو الفتاة بعمر الثانية عشر او أكثر بثلاث سنوات، لديها شكل تقليدي للفتاة المصرية، شعرها قصير انيق، بشرتها بلون برونزي، ولا تستطيع إخفاء تعابير الدهشة والتفكير عن وجهها الصغير. تدفقت الذكريات في عقل ايفي كموجة مد، ونادتها باسمها بدون تفكير " شوبت... "
كانت الذكريات في عقلها مشوشة، والجسد وقف بشكل غريزي في انتظار رد فعل منزعج لكن محترم. كانت الحقيقة قاسية، والوهم تدمر بالكامل.
" هاي، انت لطيفة جدا لتناديني باسمي! انت الاميرة الصغيرة التي قتلت اختها!" اختلفت تعابير وجه الفتاه بسبب الغضب، شدت قبضة يدها وارتجف جسمها، حدقت عينيها في ايفي، " انت لن تموتي إذا كنتي تريدين الموت! هذا لا يعني أنى سأسمح لك بالنجاة مما فعلتيه! من الأفضل لك الموت في المملكة القديمة، وان لا تعودي ابدا الى مصر!"
مع نظراتها الغاضبة، بدت ايفي كانها لم تر هذه الفتاة ابدا من قبل، اعتادت ايفي ان تكون هذه الفتاه خادمتها المفضلة وصديقتها في هذا العالم، كانت متآلفة جدا معها. لكن لماذا تبغضها الان الى هذه الدرجة؟ لماذا تسمع منها نبرة غاضبة؟
كرهت جسدها هذا، لان ما فعل بهذا الجسد كان قبل ان يصبح تحت تحكمها. هي لم تفعل شيئا، لكنه كان السبب في جعل جميع الأشخاص الذين تعتز بهم يعانون ويكرهونها.
راودها شعور بالعجز، وبدأت تهتز داخليا، ببطء اخفضت راسها و شدت قبضتها جاعلة اظافرها تغوص في باطن كفها.
لماذا أصرت على العودة الى هنا؟ ما حصلت عليها هو التأكد من خسارتها لأحدى صديقاتها، والشخص الذي احبت، فقدت كل معنى للحياة هنا.
هذا ليس طبعها.
اذن ما الذي تريده بالضبط؟
" شوبتي" جاء الصوت اللطيف والنمطي بطيئا، اختفت على أثره المعالم الغاضبة عن وجه الفتاة، تنحت جانبا قائلة بلهجة بادية الاحترام " صاحب السعادة".
تنهد الصوت اللطيف بخفة، وساد بعدها الصمت. شعرت ايفي بتحديق حزين شملها من راسها الى أطراف اقدامها، كما لو انه يستطيع اختراق عظامها.
لم تجرؤ على رفع نظرها لأنها لا تريد رؤية الفتاة بجانبه.
" إذا كان بإمكانها ان تكبر قليلا، ستكون جيدة مثلك" بسماعها لهذه العبارة لم ترفع نظرها للأعلى مطلقا، تنهدت الملكة بعد قولها العبارة، ثم مشت مغادرة ومبتعدة عن ايفي.
اختلط عبير اللوتس مع صوت المجوهرات الذهبية وبدا الاثنان بالاختفاء تدريجيا مع ابتعاد الملكة.
لم ترفع ايفي نظرها للأعلى، كما لو ان شوبتي صفعتها خلال مرورها بجانبها، بقيت ايفي صامتة.
لحسن الحظ كان وينتر واقفا بجانبها وممسكا بها بلطف، لو لم يفعل لسقطت ارضا ولم تستطع بعدها النهوض.
في هذا التاريخ، لا شيء يمكن فعله بالنسبة لما حدث قبل عودتها، كان كل شيء خارجا عن تحكمها وارادتها ومعرفتها. لكن بسبب هذا الجسد غريب الاطوار، بسبب انعكاس الوقت، يبدو كان كل شيء كاثار جانبية لعودتها، شعرت بثقل بجسدها وصعوبة في تنفسها.
العودة الى هذا العصر كان خطئا كبيرا. لقد اضاعت نفسها في سيل التاريخ وعلقت به فقط لتستطيع النظر اليه بأنانية، ولتستطيع الكلام معه في نفس الوقت والمكان.
حتى انها شكلا لم تعد تشبه نفسها السابقة.
صكت اسنانها وضغطت على نفسها لتقف دون دعم ورتبت وشاحها الذهبي. حاولت تهدئة تنفسها ونبضات قلبها، ثم ادارت راسها ببطء ملتفته الى وينتر الذي كان يقف قلقا. العيون الرمادية لمعت ببريق اعتيادي، كما لو المشهد الذي حصل الان لم يحدث ولم يظهر ابدا.
" الان نستطيع المغادرة."
غرفة قراءة الفرعون أكبر من ثلاث اضعاف غرفة ايفي الصغيرة، نقشت الجدران برموز حامي اليد الملكي والذي يمثل القوة الحاكمة. شموع الإضاءة كانت مشتعلة في الغرفة، جاعلة داخل الغرفة مضاءة ومشعة بالأنوار حتى مع غياب الكهرباء. رتبت ورق البردي والأدوات بدقة على رفوف خشبية معتمة، والنقوش الذهبية على الجدران عكست الضوء الكبير القادم من أضواء الشموع. خلف الطاولة كان عرش الفرعون، زخرف ظهر الكرسي بنقش لنسر يفرد جناحيه.
هذه هي الكرسي الوحيدة في الغرفة الضخمة، في هذه الغرفة، حتى لو كنت ضيفا غير رسمي، فقط الفرعون هو من يستطيع الجلوس.
جلس رمسيس على عرش الملك وبهدوء اخذ يقرا أوراق البردي في يد، وبالأخرى حمل مشروبا احمرا ساخنا. كان يرتدي معطفا ابيضا طويلا، تدلى شعره البني الطويل على كتفيه بحرية. كانت الغرفة مليئة بعبير اللوتس. كانت هناك اثار اقدام لامرأة في الغرفة، نعل الحذاء سقط على الأرضية ذات الأحجار الزرقاء والبيضاء مصدرة ضربات منتظمة. تجمدت للحظة عندما قال وعينيه مثبتة على الأداة في يده " لم عدتي الان؟ قلت أني سأزورك في المساء"
توقفت الخطوات وساد الصمت في الغرفة حتى ان أصوات التنفس لم تسمع. لم يرفع نظره اليها، ولم يهتم بمن كان واقفا امامه.
بعد عدة لحظات، كسر الصمت صوت خفيف وضعيف " صاحب السعادة، انا ايفي"
ارخى يده ورفع نظره الى حيث وقفت الفتاة الصغيرة.
كانت لا تزال ترتدي ملابسها البيضاء العادية، بلا أي مجوهرات، بلا روج او شيء على وجهها، انما بالضبط كما كانت عندما تقابلا عند بركة اللوتس ذلك اليوم. كان بصيص من الضوء يشع من عينيه، نظرت اليه بلا تردد مما جعل من الصعب عليه النظر بعيدا.
كانت تقف بعيدة عدة أمتار عنه، لعقت شفتيها ببطء والجو المحيط كان قاسيا قليلا.
القى نظرة متفحصة عليها، و اتكأ ببطء بيده على خده، عينيه البنيتين نظرت اليها بإمعان، وجهها الشاحب، جفون عينيها العميقتين، انفها المستقيم، شفاهها الدقيقة، و أخيرا على الوشاح الذهبي الذي وضع على شعرها الفضي.
" اخلعيه" قالها ببرود.
" ماذا؟" زفرت ايفي. نظرت الى لباسها وتأكدت من عدم ارتداءها لاي مجوهرات خاصة، ماذا قصد بالضبط باخلعيه؟
وقف ومشى بسرعة تجاهها، وسحب الوشاح الذهبي عن راسها بلا أي شفقة. بعد سحبه الوشاح بقوة سقطت ايفي على الأرضية ذات الحجارة الزرقاء والبيضاء مصدرة صوتا باردا.
ضيق عينيه وحدق بشعرها الفضي بلا تركيز. كانت ايفي متفاجئة بسبب تصرفه الغير متوقع، ومع هذا لم تستطع قول أي كلمة حتى مع ان فمها كان مفتوحا. عندما استعادت قدرتها على الكلام، كان رمسيس قد عاد الى كرسيه وجلس عليه، والتقط ثانية ورقة البردى. " بقراءة هذه، انت تعدين ان تعودي الى مصر، انا لن اتمسك بك، ما الذي تنوين قوله"؟
بدأت العيون المشتتة بإصدار بريق حاد، ردد الصوت الهش بضعف " انا هنا للتفاوض معك"
التفاوض؟ ما الذي تتكلم عنه؟ رفع رمسيس حاجبيه ووضع ورقة البردي من يديه. نظر بإحكام الى الفتاة الواقفة امامه، الى اخته! لم يتحدثا الا ان تعابيره ارتسمت واضحة على وجهه، استجواب؟ سخرية؟
لم تكن تريد الخوض في تفاصيل الأسئلة الواضحة في عينيه، ايفي حركت شعرها الفضي الطويل بلطف ورسمت ابتسامه صغيره على شفتيها.
" بمكانتي الان كطعم مغري، سآتيك عند حاجتك العاجلة لهزيمة الشرفاء والتفاوض"
لم تتوقف مطلقا وانما استمرت بالحديث بسرعة.
" المملكة القديمة ليست بغنى ارض مصر. انها ليست متقدمة كأسلحة الحيثيين. بخلاف الموقع الجغرافي لسوريا، فإنها غير متصلة بجنوب مصر. إذا قال الوزراء الكبار ان هذا الزواج ضروري، فانه لا يوجد ما تقلق منه او حتى لن يكون هناك حرب. حجة الحيثيين بعيدة المنال. في السنوات الأخيرة، مصر شنت حربا على المرتزقة في المملكة القديمة. مع بداية هذا العام، لا يوجد شك حول العلاقة بين الدولتين. ليس على الصين ان تزوج اميرة لها في الماضي لتحصل على علاقات جيدة، انما من الأفضل الاعتماد على الزواج لتوطيد العلاقات مع اشورا التي تزداد قوتها ببطء. كجار للحيثيين، العلاقات مع اشورا أكثر اهمية"
" انت، في طريقك للانتقال الى المملكة القديمة، التحركات يجب ان تكون القلب الذي يرافقها".
" يجب ان تكون سريعا، وفي أسرع طريقة، أي خسارة حتى لو كانت صغيرة ستنعش الملكة القديمة، واستعد للمواجهة القادمة مع الحيثيين."
" إذا كنت تريد تزويجي للمدعو كوش، فانت تريد استخدامي لتحقيق أغراض اهداف عسكرية محددة. انا الاميرة الوحيدة في العائلة الملكية التي تستطيع الزواج" قالتها ايفي بوعي ذاتي حول هذا الامر.
لم يتكلم.
" هناك طعم كاف لجعل الاخرين يسترخون في يقظتهم. ما يسمى بالطعم الكبير هو فقط حياتي وموتي، مصر لا تهتم بغيرها" في العائلة الملكية هو لا يهتم لحياتها او موتها. في عيون ايفي، هناك اسف وضعف نابع من وعيها الذاتي، لكن هذا الضعف يبدو انه تحول لقوة متزايدة.
" لهذا اريد التفاوض معك"
" انت تتوهمين، سأنهي هذا لأجلك، رغبتي تتطلب منك اكمال هذا الامر لأجلي"
" طبعا انت تستطيع اجباري على الذهاب لكوش، لكن ان لم تملك تعاوني، انا واثقة ان خطتك لن تنجح"
في غرفة قراءة الفرعون يوجد الاثنان فقط، القت ايفي هذه العبارة بصوت راجف متردد، كصوت رنين الكريستال عندما يسكب فيها القليل من الماء، مشكلة عدة أمواج مترددة، و من ثم عادت الغرفة الواسعة الى الصمت القاتل.
جلس الفرعون الشاب على الطاولة، وامتدت يده اليسرى لتمسك بأداة مصنوعة من البردى، عيونه انخفضت و كان هناك فترة طويلة بلا كلام. بعدها رفع بصره بحدة والتقت عيناه بالعينين الصغيرتين للأميرة الفضية.
لم تهرب ايفي من عيون الفرعون الحادة، انما واجت نظراته بشجاعة ونظر كل منهما للأخر.
هي تعلم انه يقيم نفسه في قلبه.
ايفي لا تريد التراجع، ولا تريد اظهار أي ضعف أيضا.
لكن، ما مدى روعة التقاء عيونهما معا، انها الان هذا النوع من مشاعر الحب العابرة.
بعد مرور وقت طويل، وقف رمسيس ببطء، ولم تتحرك عينيه عن ايفي، وتكلم بصوت ضعيف " ما الذي تريدينه ...؟"
أغلقت ايفي عينيها بشدة، وشعرت بالألم يزحف خلال كل زاوية من قلبها.
هي.. ما هذا؟ ما هذه القسوة؟ هل يهتم بما تريد؟
في هذه اللحظة، أخيرا أدركت. لا، هي مدركة لما تريد، تريده ان يعيش بسلام وبعظمة، تريده ان يكون سعيدا.
كما فكرت بالبداية، كشخص ليس من هذا الوقت، نظرت اليه بهدوء، تشاهده في زمنه، في عصر هذا الشاب المشع، ينمو ليصبح عظيما ويتحول الى اسطورة.
وأيضا، هي ...
" لدي ثلاث شروط"
نظرت الى عينيه والتي كانت تبدو فيها اثار التشوش.
" ثلاثة" تنهد بتردد، هدأت صوتها وأعادت كلامها بلطف " لاحتمالية هزيمة سريعة لبلد ما، نحتاج لأمر واحد بسيط"
" تكلمي"
"أولا، يجب ان تعدني بسلامة الخادم العجوز"
خادمها العجوز قام بحمايتها، وهو أيضا مخلص للفرعون، لذلك التصرف بلطف تجاهه لن يكون خطئا.
"نعم" قال بلا تفكير.
" ثانيا، انا لا اريد الكهنوت، لكن يجب عليك ان تعيد مكانة امي الكاهنة الأولى"
شكرا لك لإنجاب هذا الجسد، لولاه لما استطاعت العودة الى هنا ورؤيته ثانية.
" انا اعد بضمان نسبك الملكي كاميرة ملكية، حيث ان هذا الامر طبيعي".
بدأت عيناه البنيتان يفقدان بريقهما الطبيعي.
ارادت ان تجعله سعيدا، هي تريد جعله سعيدا. هذا النوع من المزاج كان قويا لدرجة انه جعلها قوية هي أيضا لدرجة انها لن تتردد حتى لو تحولت الى غبار بسبب الأسف والندم.
وأخيرا هي فكرت انها لو استطاعت اخذ هذا الجسد، كما تريد وفكرت، فهي ستجعله يرى الأمور في الافاق البعيدة وهذا سيساعده على اكمال خطته السياسية المعدة بإحكام. هي الان في هذا الزمان والمكان بدون تشويه للتاريخ، في حالتها هذه، ستجلب له أعظم سعادة.
لكن...
" ثالثا؟ انا استمع" عقد يديه امام صدره ودار ماشيا حول الطاولة مقتربا منها ووقف على بعد عدة خطوات عنها.
ترددت للحظة، رفعت بصرها، العينان البنيتان كانتا هادئتا كالماء، نظرت الى عينيه وكان صعبا عليها التركيز.
" ثالثا؟ انا مكتفية بك" جاء صوتها المنخفض خاليا من الصبر وتردد بلطف في ارجاء القاعة الفارغة.
اليس حتى هذا الوقت لها؟
اعتقدت انها ولدت وماتت، وأنها غير محصنة في وجه الزمان والمكان.
ابتسمت ايفي بنعومة.
بما ان الأمور وصلت الى هذا الوضع، فلتكن انانية قليلا. على الأقل، بعد إتمام مهمتها في الذهاب الى كوش، تستطيع العودة لزمانها ومكانها الحقيقيين. بعد التأكد من ان الأمور جميعها تامة، فلتدع الخطان اللذان رسما بزوايا خاطئة، ان يجتمعا في نقطة تقاطعهما ويستمرا بالحركة ليصبح بعدها لا شيء يجمع بهما ثانية.
فليكن كذلك.
في وسط الاحداث العشوائية، اجتمعت الأمور على شكل ضوء حاد في هذه اللحظة وتكلمت قائلة " سمعت ان هناك تميمة غامضة في مصر".
ضيقت نظرها وأكملت تقول
" تسمى بعين حورس"
رفع حاجبيه ونظر الى وينتر الذي دخل من الباب كرد فعل لكلامها. شاعرا بنظرات الملك، اومأ وينتر سريعا. " هناك اسطورة مذهلة، عيون حورس الحقيقية هي كنز سري فريد"
نظر اليها وبالمقابل نظرت اليه.
عين حورس الحقيقية... هي حقيقية وموجودة، وهو لم ينف وجودها.
زفرت ايفي "انها هي. اريد عين حورس الحقيقية".
إذا اردت الا تشوه المستقبل، فعليك الا تلمس الماضي.
"انا أؤمن بانك ستحضرين عين حورس لي... هذا مصيرك. انت بالتأكيد ستعودين"
عندما تركت العالم المستقبلي، تردد ما قاله البستاني حينها في اذنها.
في ذلك الوقت، كانت ايفي ممتلئة بكل مشاعر الازدراء. اختارت امل الواحد من مليون لشرب الدواء، وواجهت خطر الموت، لتحصل فقط على لحظة من الرضى. الان فقط فكرت كم كان تصرفها محرجا لها.
في تلك اللحظة، أخيرا فهمت تفكيرها الخاص، سببها، تفجر فخرها فجأة عندما قالت جملتها هذه وانتظم بسببها مزاجها الفوضوي. كانت قد قررت انها لن تلمس التاريخ ابدا، وهذه المتعة الإضافية جعلتها تقلب الأمور راسا على عقب. حبها، عندما يحصل على كل شيء هو يريده فعلا، ستكون النهاية، وستدفن كل شيء في قلبها الى الابد.
ستتجاهل من يحب ومن يهتم لأجله.
لن تفكر فيما حصل في بيته قبل قليل.
لن تهتم بمن توقف عند باقات اللوتس الجميلة.
إذا لم تنظر الى عينيه، سيكون لطيفا عندما يلمس أي أحد.
لن يختفي حزنها، لكنه أيضا لن يعمي نظرها. الخطوة التالية هي ان تجد عين حورس بأية طريقة، فهي واثقة ان عين حورس تستطيع تفسير عدة أمور، على سبيل المثال، لماذا يوجد فتاة بنفس اسمها في العصور القديمة؟ لماذا هي بهذا الجسد تشبه بطريقة ما وجهها الحقيقي؟ لماذا كانت محظوظة جدا مرة بعد أخرى بحيث تعود له مع القليل من القسوة.
يحبها.
ينظر لها.
في هذه اللحظة غرق عقل ايفي بالكثير من التفكير. نظرت اليه، كانت عيونه البنية واضحة بطريقة استثنائية.
" هذا ما اريده، ما اريده هو عين حورس"
البحث عن عين حورس هو السبب والمعنى لبقائها في هذا العصر.
ان وجدت عين حورس فأنها ستحصل على بطاقة العودة من هذه اللعبة المؤلمة للقلب. ايفي تخطط للذهاب لكوش واكمال هذه الأمنية للفرعون، عندها تستطيع اختيار مغادرة هذا العصر الحزين للأبد.
" إذا حققت لي هذه الثلاثة شروط، انا اخطط للذهاب الى كوش وبذل جهدي لتنفيذ امنيتك"
طوت شفتها ونظرت اليه مع لمحة خفيفة من الهلع في عينيها.
لم تعرف ايفي ان كانت تريد منه الموافقة على عرضها او رفضه ببرود. هي لم تشعر سابقا بشعور ان تكون يائسة جدا لأنها لا تستطيع فهم مزاج شخص اخر و الشعور بالضياع بسببه.
حتى...
" حسب ما قلته، فان حصولك على عين حورس تعني أنك ستبدئين بسرعة!"
حتى كسر صوته اللامبالي والخالي من أي ضمير التردد في قلبها.
أغلقت عينيها بشدة، واخذت نفسا عميقا.
استدار رمسيس وعاد الى مقعده، التقط ورقة البردي التي وضعها قبل قليل.
اعتاد على كرهها ومعاملتها هكذا.
نظرت الى شعره البني المسدول، نظرت الى عيونه البنية والى أصابعه الطويلة القوية.
ايفي تحب مشاهدته هكذا.
حسنا، الان وصلت الى الهدف المبدئي من عودتها الى هذا العصر، شاهدته وتأكدت من انه يعيش حياة عظيمة.
يا للروعة.
بعد مدة طويلة، انحنت قليلا، كالمعتاد، أدت المراسم برشاقة. كان صوتها هشا وهادئا تماما كأول مرة أتت الى هنا.
" صاحب السعادة، شكرا لك. ارجو ان تتذكر ما وعدتني"
لم يرفع نظره له، تنهدت وأغلقت عينيها بعمق، ثم استدارت ومشت خارجا نحو الباب.
سمع صوت الخطوات تبتعد، فجأة رفع راسه وشاهد وينتر ينظر للفرعون بتردد على الباب. انحنى بلطف واستدار بسرعة الى حيث كانت ايفي تغادر.
في اللحظة التي بدا الباب الثقيل بالانغلاق، ومن خلال الفتحة المتبقية لإغلاقه، نظر الى منظرها النحيل باهتمام، تدريجيا أصبح المشهد يختفي على الطريق الضيق الذي انارته الأضواء المتذبذبة.
اغلق الباب الخشبي تماما، وعاد الصمت يسود الغرفة، كما لو ان في هذه الغرفة كان يوجد شخص واحد فقط من البداية الى النهاية.
******************
****************
للاطلاع على الفصل الانجليزي على الرابط
****************
تابعو صفحتنا على الفيس بوك للحصول على اشعارات الفصول الجديدة فور نشرها على هذا الرابط
0 تعليقات